سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} حظاً من التوراة.
{يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ}، فقد علمهم أنَّها في التوراة.
{وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ}: أي فكيف يصنعون {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}: وهو يوم القيامة.
{وَوُفِّيَتْ}: ذكرت.
{كُلُّ نَفْسٍ}: برَّ أو فاجر.
{مَّا كَسَبَتْ}: أي جزاء ما عملت من خير أو شر.
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}: لا ينقصون من حسناتهم ولا يُزداد على سيئاتهم.
روى الضحاك عن ابن عباس، قال: «أوَّل راية تُرفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود، فيقمعهم اللَّه على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم إلى النار».
{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك}، قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليه السلام: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لما أراد اللَّه أنْ ينزّل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، و{شَهِدَ الله}، و{قُلِ اللهم مَالِكَ الملك}... إلى {بِغَيْرِ حِسَابٍ} تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين اللَّه حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش. فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي ما من عبد قرأكنَّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلاَّ أسكنتهُ حظيرة القدس على ما كان فيه، وإلاّ نظرتُ له بعيني في كل يوم سبعين مرة، وإلاَّ قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلاَّ أعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلاَّ الشرك».
وقال معاذ بن جبل: أحتبستُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً لم أصلِّ معهُ الجمعة. فقال: يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول اللَّه كان ليوحنا اليهودي عليَّ أوقية من تبر، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك. فقال: «أتحب يا معاذ أنْ يقضي اللَّه دينك؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه. قال: قل {اللهم مَالِكَ الملك}.. إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وقل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تُعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء، أقضِ عني دَيني. فإنْ كان عليك ملء الأرض ذهباً قضاهُ اللَّه عنك».
قال قتادة: «ذُكر لنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أنْ يجعل مُلك فارس والروم في أمته، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية».
وقال ابن عباس، وأنس بن مالك: «لما فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته مُلك فارس والروم. قالت: المنافقين واليهود: هيهات هيهات من أينَ لمحمد مُلك فارس، هم أعزَّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في مُلك فارس والروم. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية». وروى كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال: خطّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعاً بين كلّ عشرة، قال: فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان مِنّا. وقال الأنصار: سلمان منّا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلمان منّا أهل البيت».
قال عمرو بن عوف: كنتُ أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج اللَّه من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقَّت علينا. فقلنا يا سلمان: آت إلى رسول اللَّه وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أنْ نعدل عنها فإنَّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمر، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة.
قال: فرقى سلمان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال: يا رسول اللَّه خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول اللَّه مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبير فَتْح، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها صلى الله عليه وسلم فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتُ مظلم، فكبَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبَّر المسلمون معه. فأخذ بيد سلمان ورقى. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه لقد رأيتُ شيئاً ما رأيتُ مثلهُ قط فالتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه بأبينا أنت وأمّنا وقد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبّر فنكبّر ولا نرى شيئاً غير ذلك قال: «ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل عليه السلام أنَّ أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور نصرى من أرض الروم كأنَّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل عليه السلام أنَّ أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أنَّ أمتي ظاهرة عليها فأبشروا». فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصرُ بعد الحصر. فطبقت الأحزاب فقال: المسلمون: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} [الآية: 22].
وقال المنافقون: ألا تعجبون يُمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنَّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنَّها تفتح لكم وأنتم إنَّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أنْ تبرزوا، قال: فأنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 12] وأنزل اللَّه في هذه القصة قوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك}.
واختلف النحاة في وجه دخول الميم في هذا الاسم وأصلهُ (اللَّه) وفي نصبه.
وقال بعضهم: إنَّما أُدخل الميم في آخره بدلاً من حرف النداء المحذوف من أوله؛ لأنَّ أصلهُ (يا اللَّه) فحذفت حرف النداء وأُدخلت الميم خلفاً منه.
كما قالوا: فم، ودم، وزر، قم مُحذف وستهم، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف.
واحتجوا بأنّ نحوها من الأسماء والنعوت إذا حُذف منها حرف أُبدل مكانهُ ميم، ولمّا كان المحذوف من هذا الاسم حرفين كان البدل ميمين، فأدغمت إحداها في الأُخرى فجاء التشديد لذلك، وفي سائر أخواتها مخففة؛ لأنَّ المحذوف حرف واحد ثم نُصب لحق التضعيف.
وأنكر الآخرون هذه القول وقالوا: سمعنا العرب يدخل الميم فيه مع ياء النداء وأنشد الفرّاء:
وما عليكِ أنْ تقولي كلما *** سبحتَّ أو هللت يا اللّهمّ ما
اردد علينا شيخنا مسلما *** فإنّنا من خيره لن نعدما
قالوا: ونرى أنَّما أصله اللَّه في الدعاء. بمعنى (يا اللَّه) ضُم إليها أمَّ وحذف حرف النداء. يُراد يا الله آتنا الخير أي: أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به. فحذفت الهمزة استخفافاً كقولهم: هلَّم إلينا كان أصلهُ هل لم إلينا، أي أقصد أو أسرع. ثم كُثرت هذه اللفظة حتى قالوا: لاهم بمعنى اللهم، وربما خفضوا ميمها أيضاً، واللَّه أعلم.
وقال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم في قوله: {اللَّهم}: تجمع سبعين اسماً من أسمائه عزَّ وجلَّ مالك المُلك. قال اللَّه تعالى في بعض الكتب: أنا اللَّه مالك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبَّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ اعطفهم عليكم.
{تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة، الكلبي: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} محمد وأصحابه، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: أبي جهل وصناديد قريش.
وقال معتصم: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: العرب. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: الروم والعجم وسائر الأمم.
السدَّي: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: آتى اللَّه الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم. وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: آدم وولده، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} إبليس وجُنده.
وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: داود. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: جالوت.
وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: صخراً. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: سليمان عليه السلام كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشيّاً لله.
وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيراً يقعد بجنبهِ، ويقول: مسكينٌ جالس مسكيناً {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: ملك النفس حتى يغلبهُ هواه ويتخذهُ إلهاً. كما قال اللَّه عزَّ وجل {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
وقال الشاعر:
ملكتُ نفسي فذاك ملكٌ *** ما مثلهُ للأنام ملكٌ
فصرتُ حراً بملك نفسي *** فما لخلق عليَّ ملكٌ
آخر:
من ملك النفس فحر ضاهي *** والعبدُ من يملكهُ هواه
وقيل: هو ملك العافية. قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} [المائدة: 20].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه. معافىً في بدنه، وعندهُ قوت يومهِ؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
وقيل: هو القناعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملوك أمتي القانع يوماً بيوم، فمن أوتي ذلك فلم يقبلهُ بقبوله ولم يصبر عليه شاكراً قصر عملهُ، وقل عقلهُ».
وعن ابن المبارك قال: دخلت على سفيان الثوري بمكة، فوجدتهُ مريضاً شارب دواء، وبه غمٌ شديد فسلمتُ عليه، وقلت: مالك يا عبد اللَّه؟ فقال: أنا مريضٌ شارب دواء وبيَّ غمٌ شديد، فقلتُ: أعندك بصلة؟ قال: نعم، فقلت: آتيني بها فأتاني بها، فكسرتها ثم قلتُ: شِمَّها فشَمَّها؛ فعطس عند ذلك فقال: الحمدُ لله ربَّ العالمين، فسكن ما به، فقال لي: يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب أو قال: عالمٌ وطبيب، فقلت لهُ: مجرّب يا أبا عبد اللَّه. قال: فلمّا رأيته سكن ما بهِ وطابت نفسهُ. قلتُ: إني أريد أنْ أسألك حديثاً. فقال: سلْ ما شئتَ.
فقلت: أخبرني ما الناس؟ قال: الفقهاء. قلتُ: فما الملوك؟ قال: الزَّهادْ. قلتُ: فما الاشراف؟ قال: الأتقياء. قلتُ: فما الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس. قلت له: أخبرني رحمك اللَّه: ما السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودّعتهُ وخرجت من عنده. قال: يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنهُ موجود رخيص قبل أنْ يغلوا فلا يوجد بالثمن.
وقال عبد العزيز بن يحيى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني الملك على المهين وقهر الشيطان. كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم».
وقال تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني ملك المعرفة، كما آتى السحرة: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}، كما نزع من إبليس وبلعام.
الحسين بن الفضل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال اللَّه تعالى: {وَمُلْكًا كَبِيرًا}، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: كما نُزع من الكفار وأهل النَّار.
أبو عثمان: أراد (بالملك): توفيق للإيمان والطاعة.
وحكى الاستاذ أبو سعيد الواعظ: إنَّهُ سمع بعض زهّاد اليمن يقول: هو قيام الليل.
الشبلي: الاستغناء بالمكوِن عن الكونين.
الواسطي: افتخر الملوك بالملك. فأخبرهم اللَّه تعالى أنَّ الملك زائل عندهم لقوله تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}.
قالت الحكماء في هذه الآية: هذا إخبار عن كمال القدرة. وأنَّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده، فأخبر أنَّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: قال عطا: تعز من تشاء: المهاجرين والأنصار، وتذل من تشاء: فارس والروم.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآء}: محمداً وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء: أبا جهل وأصحابه حين حزَّوا رؤوسهم وألُقوا في القليب.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالايمان والمعرفة. وتذل من تشاء: بالخذلان والحرمان.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالتمليك والتسليط. وتذل من تشاء: بسلب الملك وتسليط عدوهُ عليه.
الورّاق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بقهر النفس ومخالفة الهوى. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: باتباع الهوى.
الكياني: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بقهرهِ الشيطان. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بقهر الشيطان لنا.
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالقناعة والرضا. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالخزي والطمع.
قال الثعلبي رحمه الله: وسمعتُ السلمي يقول: سمعت عبد اللَّه بن علي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت بنان الحمّال يقول: الحرَّ عبدٌ ما طمع. والعبد حرٌ ما قنع.
وقال وهب: خرج الغنى والعز يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.
وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: لأنتم أغنى من الملوك.
قالوا: كيف يا روح اللَّه ولسنا نملك شيئاً؟
قال: أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم.
وللشافعي رضي الله عنه:
ألاَّ يا نفس أنْ ترضي بقوت *** فأنتِ عزيزة أبداً غنَّية
دعي عنكِ المطامع والاماني *** فكم أمنية جلبت منيَّة
وقال الآخر:
أفادتني القناعة كل عز *** وهل عزٌّ أعزُّ من القناعة
فصيرَّها لنفسك رأس مال *** وصيّرها مع التقوى بضاعة
وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالإخلاص، وتذلُ مَن تشاء: بالرياء.
وقال الحسن بن الفضل: {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالجنة والرؤيا. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالنار والحجاب. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}: يعني الخير والشر، فأكتفي بذكر الخير؛ فإنَّهُ الأفضل والاغلب كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]: أي الحر والبرد {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{تُولِجُ الليل فِي النهار}: أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات، وهو أقصر ما يكون.
{وَتُولِجُ النهار فِي الليل}: حتى يكون الليل خمس عشر ساعة، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيدَ في الآخر نظير قوله تعالى: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5].
قال سعيد بن جبير: يوم وليلة ويوم وليلة عند خلق السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: {يولج الليل في النهار ويولج النَّهار في الليل}. {يخرج الحي مِن الميت ويخرج الميتَ من الحي} قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدَّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان.
عكرمة والكلبي: {يخرج الحي من الميت}، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير.
أبو مالك: يخرج النخلة من النواة، ويخرج النواة من النخلة، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة.
الحسن: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حي الفؤاد، والكافر عبدٌ ميتُ الفؤاد يدل عليه قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ...} [الأنعام: 122].
معمر عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بإمرأة حسنة الهيئة، فقال: من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك، فقال: إن خالاتي بهذه البلاد كثير أي خالاتي هذه؟ قالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: «سبحان اللَّه الذي يخرج الحي من الميت» وكانت امرأة صالحة. وكان مات أبوها كافراً.
الفرّاء: يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب.
وقال أهل الاشارة: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه، والسَّقطة من لسان العارف. {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} قال ابن عباس: كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن حبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر: أجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية.
وقال المقاتلان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودَّة لكفار مكة فنهاهم اللَّه عزَّ وجل عن ذلك.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أنْ يكون لهم الظفر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم، قال: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون} بالرفع خبراً عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
جوبير عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عُبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدرياً تقياً، وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي اللَّه إنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدَّو، فأنزل اللَّه تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} الآية.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك}: أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عدَّة المسلمين، {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ}: وفيه اختصار، أي ليس من دين اللَّه في شيء.
وقال الحسن والسدَّي: ليس من الولاية في شيء، فقد بريء اللَّه منهُ، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: يعني: إلاَّ أنْ تخافوا منهم مخافة.
وقرأ أبو العالية عن الحسن، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد: تقية على وزن نقية، وخالفهما أبو حاتم قال: لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلاَّ بالألف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: {تقية} بالاحتجاج فكان الياء.
وقرأ الباقون {تقاة} بالتضميم. وأختاره أبو عبيدة.
وقرأ الأخفش: {تقاءة} مثل تكأة ويؤده ونحوها، وهي مصدر أتقى ومثال تقيهُ تُقاةً وتقية وتقيٌ وتقوى، وإذا قلت: اتقنت كان مصدرهُ الاتقاء، وإنَّما قال: (تتقوا) من الأتقياء، ثم قال: {تقاة} ولم يقل أتَّقاء؛ لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحداً واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون: التقيتُ فلاناً لقاءً حسناً.
وقال القطامي في وصف غيث:
ولاح بجانب الجبلين منه *** ركام يحفر الترب احتفاراً
ولم يقل حفراً قال اللَّه تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. وقال: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8].
وأما معنى الآية فقال المفسرون: نهى اللَّه عزَّ وجلَّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلاَّ أنْ يكون الكفَّار ظاهرين غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفَّار ليس فيهم غيره، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئنُ بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أنْ يسفك دماً حراماً، أو مالاً حراماً، أو يُظهر الكافرين على عورة المؤمنين، فالمتَّقي لا يكون إلاَّ مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر.
عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، قال: ورد رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: ما أراني إلاَّ قد هلكت، قال: مالك؟ قال: قد عذّبني قريش. فقلت: ما قالوا؟ قال: كيف كان قلبك؟ قال: مطمئن، قال: فإنْ عادوا لك فعد لهم مثل ذلك، قالها ثلاث مرات.
المسيب بن عبيدة عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: خالطوا النَّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا يكون به ريبة.
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد: أنا كنت أحبُّ إلى أبيك منك، وأنت أحبُّ إليَّ من أبي ولذا أوصيك بخصلتين: خالص المؤمن وخالق الكافر؛ فإنَّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن، ويحق عليك أن تُخالص المؤمن.
وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنَّه قال: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منهُ لئلا يراني.
وقال: الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عباده.
وأنكر قوم التقيَّة اليوم:
فقال معاذ بن جبل عن مجاهد: كانت التقيَّة في جُدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعزَّ اللَّه عزَّ وجل الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أنْ يتّقوا من عدوهم.
وقال يحيى البكاء: قلتُ لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج: إنَّ الحسن كان يقول لكم: التقيَّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان. قال سعيد: ليس في الإسلام تقيَّة إنَّما التقيّة في أهل الحرب.
{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}: أي يخوّفكم اللَّه على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه.
قال المفسرون: من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه.
وقال أهل المعاني: معناه ويحذّركم اللَّه إيَّاه؛ لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله: {أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]: أي ليقتل بعضكم بعضاً.
وقال الأعشى:
يوماً بأجود نائلاً منه إذا *** نفس البخيل تجهمت سؤالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله.
{وإلى الله المصير}، {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ}: قلوبكم من مودة الكفَّار. {أَوْ تُبْدُوهُ}: من موالاتهم قولا وفعلا، {يَعْلَمْهُ الله}: وقال الكلبي: أي ستروا ما في قلوبكم لرسول اللَّه من التكذيب، ويظهرون بحربه. وقال: يعلمه اللَّه ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه، ثم قال: {وَيَعْلَمُ}: رفع على الاستئناف كقولهم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} [التوبة: 14، 15] بالرفع.
وقوله: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24]، ثم قال: {وَيُحِقُّ الحق} [الشورى: 24]: وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم، مودَّة بالقلب: أي معونة بالقلب والفعل.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ}: نصب يوماً، نزع حرف الصفة أي في يوم. وقيل: نصب بإضمار فعل، أي: إذكروا واتقوا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}: موفراً لم يبخس منه شيء. قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدَّهم قوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} [الكهف: 49]: وقرأ عبيد عن عُمير محضراً بكسر الضاد يريد أن عمله يحضره الجنَّة يسرع به من الحضور أو الحضر.
{وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء}: جعل بعضهم خبراً في موضع النصب، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها، أي: ويجد عملها، وجَعله بعضه خبراً مستأنفاً، وحينئذ يجوز في {تَوَدُّ} الرفع، والجزم، دليل هذا التأويل: قراءة عبد اللَّه {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ}. {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا}: بين النفس {وَبَيْنَهُ}: يعني بين السوء {أَمَدَاً بَعِيداً}: والأمد: الأجل والغاية التَّي ينتهي إليها. قال اللَّه: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} [الجن: 25]، وقال: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد}
[الحديد: 16].
قال النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت سابقة *** بسبق الجواد إذا إستويا على الأمد
قال السدي: أمداً بعيداً أي: مكان بعيد.
مقاتل: كما بين المشرق والمغرب.
قال الحسن: ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً ولا يوَدَّ لو أن يعلمه.
{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد}: أي بالمؤمنين منهم.
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} الآية، قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهم يحبَّون اللَّه، فقالوا: يا محمَّد إنَّا نحبُ ربَّنا، فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية، وجعل إتبَّاع نبيه عَلماً لحبَّه تعالى.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال: يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش: يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنَّ اليهود لمَّا قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، أنزل اللَّه هذه الآية، فلمَّا نزلت عرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
روى محمد بن إسحاق عن محمَّد بن جعفر عن الزبير: قال: نزلت في نصارى أهل نجران وذلك أنَّهم قالوا: إنَّا نعظم المسيح ونعبده حبَّاً لله سبحانه وتعظيماً له، فقال الله: قل يا محمّد: إنْ كنتم تحبّون الله وكان عظيم قولكم في عيسى حبّاً لله سبحانه وتعالى وتعظيماً له فاتَّبعوني يحببكم اللَّه، أي: إتَّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم اللَّه، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه، وحبَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين منّة عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو أحمد محمد بن ابراهيم الصريمي قال: أنشدنا علي بن محمد قال: أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد اللَّه بن المبارك:
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه *** هذا لعمري في الفعال قبيح
لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إنَّ المحب لمن يحبُّ مطيع
عروه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفّ من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلاّ الحبّ في الله والبغض في الله قال اللَّه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}».
فلما نزلت هذه الآية قال عبد اللَّه بن أُبي لأصحابه: إنّ محمّداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم، فنزل: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ}: أعرضوا عن طاعتهما. {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين}: لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم.
وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى اللَّه ومن عصى الإمام فقد عصاني».


{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
{إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}: قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: يعني: إنَّ اللَّه اصطفى هؤلاء الَّذين قالوا بالإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، واصطفى (افتعل) من الصفوة وهو الخالص من كل شيء، يعني: اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحاً شيخ المرسلين، وآل إبراهيم وآل عمران.
قال بعضهم: أراد بآل إبراهيم وآل عمران: إبراهيم وعمران نفسهما، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]: يعني موسى وهارون عليهم السلام.
قال الشاعر:
ولاتبك ميتاً بعد ميّت أحبّه *** علي وعبّاس وآل أبي بكر
يعني: أبا بكر.
قال الباقون: آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنَّ محمَّداً عليه السلام من آل إبراهيم وآل عمران.
وقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون.
قال الحسن ووهب بن منبه: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى.
وقيل: هو عمران بن ماتان، وامرأته حنّة، وخصّه من الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء والرسُل بقضَّهم وقضيضهم من نسلهم. {عَلَى العالمين * ذُرِّيَّةً}: نصب على حال قاله الأخفش.
الفرّاء على القطع؛ لأنَّ الذريَّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة.
الزجَّاج: نصبٌ على البدل. وقيل: على النكرة أي اصطفى ذريَّة {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}: وقيل: على الحال أي بعضها من ولد بعض. وقال أبو روق: بعضها على دين بعض.
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: قال الحروي: لمَّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة، فلمَّا صلَّى النَّاس الجمعة حملوه، فلم تترك الصلاة في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلاَّ يوم ممات الحسن، فإن الناس إتَّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلَّي في المسجد صلاة العصر.
قال الجزائري: سمعت منادياً ينادي: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}، وإصطفى الحسن البصري على أهل زمانه.
الأعمش عن أبي وائل، قال: قرأت في مصحف عبد اللَّه بن مسعود: إنَّ اللَّه إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران، فقال ابن عباس ومقاتل: هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلثمائة سنة، وكان بنو مايان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقال ابن إسحاق: هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين ين يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود عليه السلام.
{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}: أي جعلت الذي في بطني محرَّرا نذراً منَّي لك، والنذر: ما أوجبه الانسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة.
قال اللَّه فقولي: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26]: أي أوجبت.
وقال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه».
قال الأعشى:
غشيتُ لليلي بليل خدورا *** وطالبتها ونذرت النذورا
ومن هذا قولهم: نذر فلان دم فلان: أي أوجبت على نفسه قتله.
وقال جميل:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي *** وحموا لقائي يابثين لقوني
محرَّراً: أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة حبيساً عليها مفرغاً لعبادة الله ولخدمة الكنيسة، لا يشغله شيء من الدنيا وكلَّما أخلص فهو محرَّر، يقال: حرَّرت العبد إذا أعتقته، وحرَّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه، ورجل حرّ إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحر الذي خلُص من الرمل والحصاة والعيوب.
ومحرَّراً: نصب على الحال.
وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما: فإن الحر رجل إذا حرَّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام، وإنْ أحبَّ أن يذهب ذهب حيث شاء، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسل محرَّراً ببيت المقدس، ولم يكن محرَّراً إلاَّ الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى، فحرَّرت أُمَّ مريم ما في بطنها.
وكان القصة في ذلك أنَّ زكرَّيا وعمران تزوجا أُختين، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عند زكرَّيا وحنَّة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وقد كان أمسك على حنَّة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرتُ بطائر يطعم فرخاً فتحركت لذلك شهوتها للولد، ودعت الله أن يهب لها ولداً وقالت: اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدَّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذراً وشكراً، فحملت بمريم فحرَّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى والأُنثى عورة لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همَّ من ذلك، فهلك عمران وحنَّة حامل بمريم.
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}: أي ولدتها وإذا هي جارية، فالهاء في قوله: {وَضَعْتُهَآ} راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة، لذلك أنَّث.
{قَالَتْ}: عذراً وكانت ترجوا أن تكون غلاماً ولذلك حررَّت.
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى}: أعتذار إلى اللَّه عزّوجل.
{والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}: ما ظنّت عن السدي، وقرأ العامّة بتسكين التاء وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: {وَضَعَتْ} بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم.
{وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}: في خدمة الكنيسة والعُبَّاد الذين فيها؛ لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى.
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}: وهي بلغتهم: الخادمة والعابدة، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها.
روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد».
{وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}: آمنها وأجيرها بك. {وَذُرِّيَّتَهَا}: وأولادها.
{مِنَ الشيطان الرجيم}: الطريد اللعين المرمي بالشهب.
ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلاَّ والشيطان يمسه حين يولد فيستهلُ صارخاً من مس الشيطان إيّاه إلاَّ مريم وإبنها» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}.
سعيد عن قتادة قال: «كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جُعِل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليهما منه شيء».
قال: وذكر لنا أنّهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم. وقال وهب بن منبه: لمّا ولد عيسى عليه السلام أتى الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكّسة، فقال: هذا لحادثٌ حدث، وقال: مكانكم، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً، ثمّ طار أيضاً فوجد عيسى قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم، فقال: إنّ نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلاَّ أنا بحضرتها إلاَّ هذه، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الخفة والعجلة.
{فَتَقَبَّلَهَا}: أي تقبل اللَّه من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر، يقال: قبل ولأن الشيء إذا رَضَيَه يقبله قبولاً بالفتح مصدر، مثل الزارع والزروع والقبول، ولم يأت غير هذه الثلاثة، والقياس الضم مثل الدخول والخروج، قاله أبو عمر والكسائي والأئمّة، وقال بعضهم: معنى التقبّل: التكفّل في التربية والقيام بشأنها.
وقال الحسن: قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل.
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}: ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له: المصدر على غير المصدر.
قال الفرّاء: مثل قولك تكلمت كلاماً.
قال الفطامي: وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه إتباعاً.
وقال آخر: وإن مشيتم تعاودنا عوادا، ولم يقل: تعاودوا.
{وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}: ولم يقل: إنباتاً.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يقول: سلك بها طريق السعداء {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}: يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد.
ابن جريج: أنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً حتى تمت امرأة بالغة تامة.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}: قال المفسرون: أخذتها أمّ مريم حين ولدتها، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار؛ لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها؛ لأن عندي خالتها.
فقال له الأحبار: لا تفعل ذلك؛ فإنّها لو تركت وحقُّ الناس بها لتركت لأُمها التي ولدتها، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جاري.
قال السدي: هو نهر الأردن، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، قاله ابن إسحاق وجماعة.
وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان الماء فذهب بها الماء، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها.
قال ابن إسحاق: فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محراباً: أي غرفة في المسجد، وجعل بابه إلى وسطها، لا يرقى إليها إلاّ بسلّم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم.
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}: يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّاً طريّاً. {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} فإنّها كانت إذا رزقها اللَّه شيئاً وسألت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
أخبرنا عبد الله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيّاماً لم يُطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنيّة هل عندكِ شيء آكلُ فإنّي جائع؟» فقالت: لا والله بأبي أنتَ وأمّي، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت: لأوثرنّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام، فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك، قال: «فهلمّي به»، فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه، فقال عليه السلام: «من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت: هو من عندالله إنّ الله يزرق من يشاء بغير حساب، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت يرزقها الله رزقاً حسناً فسُئِلت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}» فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي اللَّه عنه، ثم أكل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا.
قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل اللَّه فيها بركة وخيراً.
قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاماً على الكبر، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد إنقرضوا، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.
قال اللَّه تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}: أي فعند ذلك. و(هنا) إشارة إلى الغاية كما أن (هذه) إشارة إلى الحاضر.
والكاف: اسم المخاطب وكسرت اللام لإلتقاء الساكنين.
قال المفضل بن سلمة: أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا.
{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه. {قَالَ رَبِّ}: أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره، استغني بكسر الباء عن الياء. {هَبْ لِي}: أعطني، {مِن لَّدُنْكَ}: من عندك. وفي لدن أربع لغات: لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولَدْنَ بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولُدْنَ بضم اللام وجزم الدال وفتح النون.
قال الفرّاء: وهي يخصّص بها على الإضافة، وترفع على مذهب مذ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
ما زال مهري مزجر الكلب منهم *** لدن غدوة حتى دنت لغروب
{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}: نسلاً مباركاً تقيّاً صالحاً رضيّاً، والذرية تكون واحداً أو جمعاً ذكراً أو أنثى، وهو ههنا واحد يدل عليه قوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة؛ لتأنيث لفظ الذرية.
كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى *** وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته؛ لتأنيث لفظ الخليفة، فكما قال آخر:
فما تزدري من حية جبلية سكات *** إذا ما غض ليس بأدردا
فأنث الجبلية؛ لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى، فقال: غض؛ لأنه أراد حية ذكراً والحية تكون الذكر والانثى، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه؛ فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك: حدثنا مغير الضبي، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية.
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء}: أي سامعه وقيلَ مجيبه، لقوله تعالى: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} [يس: 25]: أي فأجيبون. وقولهم: سمع اللَّه لمن حمده: أي أجابه.
وأنشد:
دعوت اللَّه حتى خفتُ ألا *** يكون اللَّه يسمعُ ما أقول
أي بكيتُ.
قتادة عن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أيما رجلٌ مات وترك ذرية طيبة أجرى اللَّه عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئاً».
{فَنَادَتْهُ الملائكة}: قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: فناديه بالياء، وأبو عمارة وأبو عبيدة، وقرأ الباقون: بالتّاء واختاره أبو حاتم: فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إنْ شئت أنَّثت وإن شئت ذكَّرت، إلاّ أنّ من قرأ بالتاء؛ فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [الحجرات: 14]، ومَن ذكّر خلها.
روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، قال: كان عبد اللَّه يُذكّر الملائكة في القرآن، قال أبو عبيدة: إنمايرى أن اللَّه اختار ذلك خلافاً على المشركين في قولهم: الملائكة بنات اللَّه فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم.
وروى الشعبي أن ابن مسعود قال: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءاً وذكّروا القرآن.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة ههنا: جبريل وحده؛ وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل: يا زكريا {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} فذلك قوله: {فَنَادَتْهُ الملائكة}: يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} [آل عمران: 42]: يعني جبريل وحده، وقوله في النحل: {يُنَزِّلُ الملائكة} [النحل: 2]: يعني جبريل ما يروح بالوحي؛ لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل عليه السلام، يأت عليه قوله ابن مسعود، فناداه جبريل {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}: وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وخرج على بغال البريد، وإنما على بغل واحد، وسمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173]: يعني نعيم بن مسعود.
{إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173]: يعني أبا سفيان ونحوها كثرة.
وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع؛ لاجتماع أصحابه معه، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يُبعث إلاَّ ومعه جمع منهم فهي على هذا.
{وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}: يعني في المسجد، نظيره قوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} [مريم: 11]: أي المسجد، وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21]: أي المسجد، وهو مفعال من الحرب، قيل: سمي بهذا؛ لأنّه تحارب فيه الشيطان، كما قيل: مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن، وفخّمه الآخرون.
{أَنَّ اللَّهَ} قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة: بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إن اللَّه؛ لأن النداء قول.
وقرأ الباقون: بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة أن اللَّه يُبشرك.
وقرأ عبد اللَّه: {فِي المحراب} يا زكريا إن اللَّه {يُبَشِّرُكَ}: اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة: موضعين ههنا وفي التوبة {يُبَشِّرُهُمْ} [الآية: 21] ومريم وفي الحجر {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، [مريم: 7]، و{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وفي سبحان والكهف {وَبَشِّرِ المؤمنين} [البقرة: 223]، [التوبة: 112]، وفي مريم موضعين: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} [الآية: 7] و{لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} [الآية: 97]، وفي حم عسق: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الشورى: 21، 23] فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة، وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها: حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها.
وقرأ يحيى بن رثاب والكسائي خمسة منها مخففة، موضعين ههنا وفي سبحان والكهف وعسق.
وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفاً واحداً وهو قوله: في {حم، عسق ذَلِكَ} النبي {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الشورى: 23].
وقرأها كلها حميد بن قيس: بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها.
الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يُبشر، قال الشاعر:
يا أُمّ عمرو أبشري بالبشرى *** موتُ ذريع وجراد عظلي
ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر:
نشرت عوالي إذ رأيتُ حيفة *** ماسك من الحجّاج تعلى كتابها
وقال الفرّاء:
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى *** غبراً أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وأبشر بما بشروا به *** وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل
روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي، قال: من قرأ يبشرهم مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشّرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور، يسرّهم، وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: إن اللَّه يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاماً.
ومن قرأ بالتشديد من بشر يُبشر بشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحهم.
قال جرير:
يا بشر حق لوجهك التبشير *** هلا غضبت لنا وأنت أمير
ودليل التشديد: إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين} [الزمر: 17، 18]، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112]، {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55].
{بيحيى}: هو اسم لا يجري لمعرفته، والمزايد في أوله مثل: يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم؛ لأجل الياء وفخّمه الآخرون، وجمعُهُ (يحيون) مثل موسون وعسون، واختلفوا فيه لِمَ سُمي يحيى.
قال ابن عباس: لأن اللَّه أحيا به عقر أُمه. قتادة: لأن اللَّه أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم: لأن اللَّه أحيا قلبه بالنبوة.
الحسن بن الفضل: لأن اللَّه أحياه بالطاعة حتى لم يعصِ ولم يهم بمعصية.
ما روى عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلاَّ ويلقى اللَّه عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلاَّ يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها.
قال الثعلبي: سمعت الاستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول: سُمي بذلك؛ لأنه أُستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هوان الدنيا على اللَّه إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة».
قال الثعلبي: وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول: عن عمر بن عبيد اللَّه المقدسي: أوحى اللَّه إلى إبراهيم الخليل: أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها: أني مخرج منكما عبداً لا يموت بمعصيتي اسمه حيى فهبي له من اسمك حرفاً، فوهبت له أول حرف من إسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة.
{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ}: نصب على الحال {مِّنَ الله}: يعني عيسى عليه السلام سُمي كلمة؛ لأن اللَّه قال له: كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة؛ لأنه كان بها، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني خالة، ثم قُتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما السلام.
وقال أبو عبيدة وعبدالعزيز بن يحيى: بكلمة من اللَّه وآياته، يقول: أنشدني كلمة فلان: أي قصيدته.
{وَسَيِّداً}: من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود، وهو الرئيس الذي يتَّبع ويُنتهى إلى قوله.
قال المفضل: أراد سيداً في الدين.
شريك عن أبي روق عن الضحاك قال: السيد الحسن الخلق.
وروى شريك بإسناده أيضاً عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل.
سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم. قتادة: سيد في العلم والصوم، سعيد بن جبير: الحليم، الضحّاك: التقي، عكرمة: الذي لا يغضب، مجاهد: الكريم على اللَّه، ابن زيد: الشريف الكبير، سفيان الثوري: الذي لا يحسد.
روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال: الحسود لا يسود.
قال الخليل بن أحمد: مطاعاً.
الزجّاج: هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه.
أحمد بن عاصم: السيد القانع بما قسم له.
أبو بكر الورّاق: الراضي بقضاء اللَّه تعالى.
محمد بن علي الترمذي: المتوكل على اللَّه.
أبو زيد البسطامي: هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره، لم يُحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي.
روى ابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال: وأيُّ داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن جموح.
روى عبد اللَّه بن عباس: إنه كان قاعداً مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاءه بضعة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر، فسلموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى القوم، ثم قالوا: مَن السيد منكم؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فعرفوا أنه رسول اللَّه، فقالوا: فما في أمتك سيد، قال: بلى رجلٌ أعطى مالاً حلالا ورُزِقَ سماحةً، وأدنى الفقراء وقلتْ شكايتهُ.
وروى أن أسد بن عبد اللَّه قال لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص. فقال: أما نحن فلا نسود إلاَّ من يعطينا رحله، ويفرش لنا عرضه، ويعطينا ماله. فقال: واللَّه إن السودد فيكم لغال.
{وَحَصُوراً}: أصله من الحصر وهو الحبس، يُقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منهُ، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، ومنه احصار العدو. قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء: 8]: أي محبساً. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسهُ ولا يظره حُصر.
قال جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا *** حصراً بسركِ يا أميم ضنيناً
فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ، فهو على هذا القول: مفعول بمعنى فاعل يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
وقال سعيد بن المسيب والضحّاك: هو العنّين الذي لا ماء له، ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ابن آدم يلقى اللَّه بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصورا».
{وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}: ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «كان ذكره مثل هذه القذاة».
وقال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل:
وشاربُ مربح بالكأس نادمني *** لا بالحصور ولا فيها بسوار
فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة {قَالَ رَبِّ}: يا سيدي قاله لجبرائيل عليه السلام، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل.
{أنى يَكُونُ}: من أين يكون، {لِي غُلاَمٌ}: ابن. {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر}: قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل: هذا من المقلوب: أي قد بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد: أي إني في جهد، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ بي ما أريد أن يقطعه، وأنشد المفضل:
كانت فريضةٌ ما زعمت *** كما كانت الزناء فريضة الرجم
وقيل معناه: وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني.
قال الكلبي: كان يوم بُشر بالولد ابن اثنين وتسيعن سنة، وقيل: ابن تسع وتسعون سنة، فذلك قوله: {وامرأتي عَاقِرٌ}: أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عُقر بضم القاف، يعقر عقراً وعقارة، وقيل: تكلم حتى أُعقِر بكسر القاف يعقر عقراً إذا أبقى فلم يقدر على الكلام.
وقال عامر بن الطفيل:
ولبئس الفتى إن كنت أعورُ عاقراً *** جباناً فما عذري لدى كل محضر
وإنما حذف الهاء؛ لاختصاص الأُناث بهذه، وقال به تارة الخليل.
وقال سيبويه: للنسبة أي ذات عقر، كما يقال: امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل [....] امرأتي عنى عاقر، وشخص عاقر.
وقال عبيد: عاقر مثل ذات رحم، أو خانم مثل من ينحب.
{قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}: فإن قيل: لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعدما بشرته به الملائكة أكان ذلك شكّ في صدقهم أم أنّ ذلك منه استنكاراً لقدرة ربّه؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهلُ الإيمان فكيف الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان، فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من اللَّه، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من اللَّه لأوحاه إليك خفياً، كما ناداك خفياً وكما يوحى إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعاً للوسوسة.
والجواب الثاني: إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}: أي فكيف يكون لي ولد؟ أتجعلني وامرأتي شابين؟ أم ترزقنا ولداً على كبرنا؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء؟ قال ذلك مستفهماً لا منكراً، وهذا قول الحسن وابن كيسان.
{قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً}: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكراً لك.
{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس}: تكف عن الكلام.
{ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}: تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام، ولكنه نُهي عنه يُدل عليه قوله: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}.
قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين: عُقد لسانه عن الكلام؛ عقوبة له لسؤاله الآية بعد مُساءلة الملائكة إياه، فلم يصدر على الكلام ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً: إشارة.
قال الفرّاء: ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي شبه الهمس.
وقرأ الأعمش: {رَمْزًا}: بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به. وقال عطا: أراد به صوم ثلاثة أيام؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلاَّ رمزاً.
{وَإِذْ قَالَتِ الملائكة}: يعني جبرئيل وحده.
{يامريم إِنَّ الله اصطفاك}: بولادة عيسى من غير أب.
{وَطَهَّرَكِ}: من مسيس الرجل. وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. {واصطفاك}: بالتحرير في المسجد، {على نِسَآءِ العالمين}: عالمي زمانها ولا يحرر غيرها.
{يامريم اقنتي}: أطيعي وأطيلي الصلاة، {لِرَبِّكِ}: كلمت به الملائكة شفاهاً.
قال الأوزاعي: لمّا قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دماً وقيحاً.
{واسجدي واركعي مَعَ الراكعين}.


{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
{ذلك}: الذي ذكرت من حديث زكريا ومن حديث يحيى ومريم وعيسى، {مِنْ أَنَبَآءِ}: أخبار، {الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ}: ردّ الكناية إلى ذلك فلذلك ذكر. {وَمَا كُنتَ}: يا محمد، {لَدَيْهِمْ}: عندهم، {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} سهامهم وقداحهم للاقتراع في الماء واحدها: قلم، وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء.
{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}: [....].
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}: في كفالتها.
{إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} وقرأ أبو السماك وهب بن يزيد العدوي: {بكلمة} مكسورة الكاف مجزومة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ.
{اسمه}: رد كناية إلى عيسى وكذلك ذكر. وقيل: رده إلى الكلام؛ لأن الكلمة والكلام واحد.
{المسيح}: قال بعضهم: هو فعيل بمعنى المفعول يعني: أنهُ مُسِح من الأقذار وطهر.
وقيل: مُسح بالبركة.
وقيل: لأنه خرج من بطن أُمه ممسوحاً بالدهن.
وقيل: لأنه مسح القدمين لا أخمص له.
وقيل: مسحه جبرئيل بجناحهِ من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته.
وقال بعضهم: هو بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم، وسمي ذلك لأنهُ كان يمسح المرضى فيبرأون بإذن الله.
قال الكلبي: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره.
وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: المسيح الملك.
وقال أبو تميم النخعي: المسيح الصديق، فإما هو المِسّيح بكسر الميم وتشديد السين، وقال غيره: هذا قول لا وجه له؛ بل الدجال مسيح أيضاً فعيل بمعنى مفعول لأنه ممسوح إحدى العينين كأنها عين طافية، ويكون بمعنى السائح لأنه يسيح في الأرض فيطوف الأرض كلها إلاَّ مكة والمدينة وبيت المقدس.
قال الشاعر:
إنّ المسيح يقتل المسيخا... {عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً}: نصب على الحال، أي شريفاً ذا جاه وقدر.
{فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين} إلى ثواب اللّه {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد} صغيراً قبل أوان الكلام.
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت مريم عليها السلام: كنتُ إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدثته. فإذا شغلني عنه إنسان سبّح في بطني وأنا أسمع.
{وَكَهْلاً}: قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء.
وقال الحسن بن الفضل: {كهلاً} بعد نزوله من السماء.
وقال ابن كيسان: أخبرهما أنّهُ يبقى حتّى يكتهل.
وقيل: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد}: صبيّاً وكهلاً نبيّاً ولم يتكلّم في المهد من الأنبياء إلاّ عيسى عليه السلام، فكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة.
وقال مجاهد: {وَكَهْلاً} أي عظيماً والعرب تمدح بالكهولة لأنّها أعظم؟ على في احتناك السنّ، واستحكام العقل، وجودة الرأي والتجربة.
{وَمِنَ الصالحين} أي فهو من العباد الصالحين.
{قَالَتْ رَبِّ} يا سيّدي بقولها لجبرئيل {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} يعني رجل.
{قَالَ كَذَلِكَ الله}: كما تقولين يا مريم ولكن اللّه {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً}: [...].
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: كما يريد.
قال بعض أهل المعاني: ذكر القول ههنا بيان وزيادة إلى ذكره ليتعارف النّاس به سرعة كون الشيء فيما بينهم.
وقال آخرون: هذا وقع على الموجود في علمه وإرادته وتحت قدرته وإن كان معدوماً في ذاته.
ونصب بعض القرّاء النون في قوله: {فَيَكُونُ} على جواب الأمر بالفاء، ورفع الباقون على إضمار {هو} أي فهو يكون. وقيل: على تكرير الكلام تقديره: فإنمّا يقول له كن فيكون.
{وَيُعَلِّمُهُ}: قرأ أهل المدينة ومجاهد وحميد والحسن وعاصم: بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى: {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}: قد جرى ذكره عز وجّل.
وقال المبرد: ردّوه على قوله: {إنّ الله يبشرك ويعلّمهُ} وقرأالباقون بالنون على التعظيم، واحتجّ أبو عمرو في ذلك لقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ}.
{الكتاب}: أي الكتابة والخط والعلم.
{والحكمة والتوراة والإنجيل} {وَرَسُولاً}: أي ونجعله رسولاً.
{إِلَى بنى إسرائيل}: فترك ذكره لأن الكلام عليه، كقول الشاعر:
ورأيت بعلك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحا
أي وحاملاً رمحاً.
وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس:
علفتها تبناً وماءً باردا *** حتى شتت همالة عيناها
يعني سقيتها ماءً بارداً.
قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله: {ورسولا} مضخمة والرسول حالاً للهاء، تقديره: ويعلّمه الكتاب رسولاً، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليه السلام.
روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «بُعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل» فلمّا بعث قال لهم: [....].
قال الكسائي: وإنمّا فتح لأنّه أوقع الرسالة عليه وقيل: بأنّي أو لأنّي.
{قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ}: والآية {مِّن رَّبِّكُمْ}: يصدّق قولي ويحقق رسالتي.
قال الخليل والفرّاء: أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله.
وقال الكسائي: هي في الأصل أييه مثل فاطمة فحذفت أحدى اليائين فلمّا قال ذلك عيسى لبني اسرائيل. قالوا: وما هي؟ قال: إنّي، قول نافع بكسر الألف على الإستئناف وإضمار القول.
وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي.
{ا أَخْلُقُ}: أي أصور وأقدّر.
{لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير}: قرأالزهري وأبو جعفر: كهيّة بتشديد الياء. والآخرون بالهمزة. والهيئة الصورة المهيّأة، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته. وقرأ أبو جعفر {الطاير} بالألف، والباقون بغير ألف.
{فَأَنفُخُ فِيهِ}: أي في الطين.
{فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ}: قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيراً كثيراً.
وقرأ أهل المدينة: {طائراً} على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير، لأنه لم يخلق غير الخفّاش، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقاً، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثدياً وأسناناً وهي تحيض وتطير.
وقال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتّاً ليتميّز فعل الخلق من خلق اللّه، وليعلموا أنّ الكمال للّه تعالى.
{وَأُبْرِئُ الأكمه والأبرص}: أي أشفيهما وأصححهما فقال: أبرأ اللّه المريض من أبرأ وبرئ هو يبرأ وبريء مبرأ برأوا فيهما جميعاً. واختلفوا في الأكمه: فقال عكرمة والأعمش، ومجاهد والضحّاك: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل.
ابن عباس وقتادة: هو الذي ولِدَ أعمى ولم يبصر ضوءً قط، الحسن والسّدي: هو الأعمى، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيراً هو المعروف من كلام العرب يقال: كمُهت عينه تكمه كمهاً وكمهتها أنا إذا أعميتها.
قال سويد بن أبي كاهل:
كمهت عيناه حتى ابيضّتا *** فهو يلحى نفسه لمّا نزع
قال رؤبة:
وكيد مطال وخصم مَبْده ***
هدجنَ فإن تكلم [...] الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به، والأبرص الذي به وضح.
وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان الغالب على زمن عيسى الطبّ فأراهم اللّه المعجزة من جنس ذلك داعياً لا دواء له.
وقال وهب: ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه. إنمّا كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان.
{وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله}: قيل: أحيا أربعة أنفس: عازر وكان صدّيقاً فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهم ربّ السماوات السّبع والأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأُخبرهم أنّي أُحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر. قال: فقام عازر وودكه تقطر، فخرج من قبره وبقي وولد له.
وابن العجوز مُرّ به ميّتاً على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا اللّه عيسى عليه السلام فجلس على سريره ونُزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له.
والبنت العاقر قيل له: أتُحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا اللّه فعاشت فبقيت وولد لها.
وسام بن نوح دعا عيسى عليه السلام بإسم اللّه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه. فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك بإسم اللّه الأعظم. قال: ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزّمان.
وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب، ثم قال: مُت. فقال: بشرط أن يعيذني اللّه من سكرات الموت. فدعا اللّه عز وجّل ففعل.
قال الكلبي: كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات ب: يا حىّ يا قيّوم.
{وَأُنَبِّئُكُمْ}: أُخبركم، {بِمَا تَأْكُلُونَ}: ممّا أعاينه، {وَمَا تَدَّخِرُونَ}: وما ترزمونه، {فِي بُيُوتِكُمْ}: حتى تأكلوه، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني: تذخرون، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخراً.
قال الكلبي: فلما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيى الموتى قالوا: هذا سحر، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه.
وقال السدي: كان عيسى عليه السلام إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم، ويقول للغلام إنطلق، فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا. فينطلق الصبي إلى أهله، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. قالوا: ليسوا عندنا. فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون. ففتحوا عليهم، فإذا هم خنازير، ففجئنا لذلك في بأس [...] بنو إسرائيل، فلمّا خافت عليه أُمه حملته على حميّر لها، وخرجت به هاربة إلى مصر.
وقال قتادة: إنمّا هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم إنمّا كانوا كالمنِّ والسلوى، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك [...] وخونوا. فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه. فمسخهم اللّه خنازير.
{إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت لكم.
{لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {وَمُصَدِّقاً} عطفها على قوله: {ورسولاً}.
{لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ}: لما قبلي.
{مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}: من اللحوم والشحوم. وقالوا أيضاً: يعني كل الذي حرّمَ عليهم من الأطبّاء، و{بعض} يكون بمعنى (كل) ويكون كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي كل النفوس.
وقال آخر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد بعض الشر أهون من كله.
وقرأ إبراهيم النخعي: {حرّم} مثل كرّم أي (صار حراماً).
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}: يعني ما ذكرنا من الآفات، وأما تعدّها لأنّها جنس واحد في الدلالة.
على رسالته.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}.
{إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى}: [...].
وقال أبو عبيد: عَرَفَ.
مقاتل: رأى نظر.
قرأه ضحّاك: هل تحس منهم من أحد. وقوله: {فلمّا أحسوا بأسنا}.
{مِنْهُمُ الكفر}: وأرادوا قتله استنصر عليهم وقال: {مَنْ أنصاري إِلَى الله}: قال السدي: كان بسبب ذكر أنّ عيسى عليه السلام لمّا بعثه الله إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو اسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمّه يسيحون في الأرض، فنزل في قرية على رجل فضافهم وأحسن إليهم، وكان كبير المدينة جبّار معتد.
فجاء ذلك الرجل يوماً مُهتماً حزيناً، فدخل منزله، ومريم عند امرأته فقالت: ما شأن زوجك أراه كئيباً؟ قالت: لا تسأليني. قالت: أخبريني لعلّ اللّه يفرّج كربته. قالت: إنّ لنا ملكاً يجعل على كل رجل يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر. فإن لم يفعل عاقبهُ، واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة. قالت: فقولي له لا تهتم، فإنّي آمر إبني فيدعو له، فيكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى في ذلك. فقال عيسى: إنْ فعلت ذلك كان في ذلك شر، قالت: لا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا.
قال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فأملأ قدورك وخوابيك، ففعل ذلك. فدعا اللّه عيسى فحوّل القدر لحماً ومرقاً وخبزاً وما في الخوابي خمراً لم يرَ النّاس مثله قط. فلمّا جاء الملك أكل فلمّا شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا. قال الملك: فإنّ خمري أوتى بها من هذه الأرض وليست مثل هذه. قال: هي من أرض أُخرى، فاختلط على الملك فشدد عليه. قال: أنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاهُ إيّاه. وإنّه دعا اللّه تعالى فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيّام. وكان أحبّ الخلق إليه. فقال: إنّ رجلاً دعا اللّه حتى جعل الماء خمراً لُيستجابنّ له حتى يُحيي ابني، فدعا عيسى فكلّمهُ في ذلك. فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شراً، فقال الملك: لا أُبالي، أليس أراه، فلا أُبالي ما كان.
فقال عيسى: فإن أحييته تتركوني وأُمّي نذهب حيث نشاء. قال: نعم. فدعا اللّه فعاش الغلام. فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش بادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا إبنه. فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمّه فمرّا بالحواريين وهم يصطادون السمك. فقال عيسى: ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك. قال: أفلا تمشون حتى نصطاد النّاس؟ قالوا: كيف ذلك. قال: من أنصاري إلى اللّه؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم عبد اللّه ورسوله. فآمنوا به وانطلقوا معه. فهم الحواريون وذلك قوله: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله}.
قال السدي وابن جريج والكسائي: مع اللّه، تقول العرب: الذّود إلي الذّود إبل.
وقال النابغة:
فلا تتركوني بالوعيد كأنني *** إلى النّاس مطليَّ به القار أجرب
أي مع الناس.
وقال آخر:
ولوح ذراعين في بدن *** إلى جؤجؤ رهل المنكب
أي مع جؤجؤ.
نظيره قوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]: أي مع أموالكم.
وقال الحسن وأبو عبيدة من أنصاري في السبيل إلى الله، تعني في: أي من أعواني في اللّه؟: أي في ذات اللّه وسبيله.
وقال طرفة:
وإن ملتقى الحيّ الجميع تلاقني *** إلى ذروة البيت الكريم المضمّد
أي في ذروة.
وقال أبو ذؤيب:
بأري التي تأري اليعاسيب أصبحت *** إلى شاهق دون السماء ذؤابها درجها
{قَالَ الحواريون}: اختلفوا فيهم:
فقال السدّي: كانوا ملاّحين يصطادون السمك.
وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا صيّادين سُمّوا حواريين لبياض ثيابهم.
وقال أبو أرطأة: كانوا قصّارين سمّوا بذلك لأنّهم كانوا يحورّون الثياب أي يُبيّضونها.
وقال عطاء: سلّمت مريم عيسى إلى أعمال سري، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قوماً قصارين وصبّاغين، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه. فاجتمع عنده ثياب، وعرض له سفر. فقال لعيسى: إنّك قد تعلّمت هذه الحرفة، وأنا خارج في سفر إلى عشرة أيّام، وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد اعلمت على كل صنف منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها وقت قدومي. فخرج وطبخ عيسى عليه السلام جُبّاً واحداً على لون واحد أدخله جميع الثياب. وقال لها: كوني بإذن اللّه على ما أُريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في جُبّ واحد فقال: ما فعلت؟ قال: قد فرغت منها. قال: أين هي؟ قال: في الجب. قال: كلّها؟ قال: نعم.
قال: كيف تكون كلها أحمر في جُبّ واحد؟ فقد أفسدت تلك الثياب. قال: قم فانظر. فأخرج عيسى ثوباً أحمر وثوباً أصفر وثوباً أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها. فجعل الحواري يتعجب ويعلم أنّ ذلك من اللّه، وقال للنّاس: تعالوا وانظروا إلى ما صنع. فآمن به وأصحابه فهم الحواريون.
وروى يوسف الفريابي عن مصعب قال: الحواريون إثنا عشر رجلاً اتّبعوا عيسى بن مريم، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح اللّه جعنا، فيضرب بيده الأرض سهلاً كان أو جبلاً فيُخرج لكل إنسان منهم رغيفين فيأكلوهما، وإذا عطشوا قالوا: ياروح اللّه قد عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض فيخرجون منه ماء فيشربون. قالوا: يا روح اللّه من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا وإذا شئنا سقينا وآمنّا بك فاتّبعناك؟
قال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكراء.
وقال الضحّاك: سُمّوا حواريين لصفاء قلوبهم.
وقال عبد اللّه بن المبارك: سُمّوا حواريين لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحُسنها. قال اللّه تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29].
وأصل الحور عند العرب شدة البياض. يقال: رجلٌ أحور وامرأة حوراء، شديد بياض نفلة العينين. ويقال للدقيق الأبيض: الحواري، وكل شيء بيضّته فقد حوّرته. ويقال للبيضاء من النساء حواريّة.
قال ابن حلّزة:
فقل للحواريات يُبكين غيرنا *** ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقال الفرزدق:
فقلت أنّ الحواريات تغطية *** إذا زيّن من تحت الجلابيب
وقال ابن عون: صنع ملك من الملوك طعاماً. فدعا النّاس إليه، وكان عيسى على قصعة، فكانت القصعة لا تنقص. فقال له الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: إنّي آتك ملكي هذا واتبعك، فانطلق واتبعه ومن معه فهم الحواريون.
وقال الكلبي وأبو روق: الحواريون أصفياء عيسى وكانوا إثنا عشر رجلاً.
الحسن: الحواريون الأنصار والحواري الناصر.
النضر بن شميل: الحواريون: خاصة الرجل. عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الحواري: الوزير.
وعن روح بن القاسم قال: سألت قتادة عن الحواريين فقال: هم الذين تصلح لهم الخلافة.
والحواري في كلام العرب الضامن خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه. يدل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لكلّ نبيّ حواري وحواريي الزبير بن العوّام».
وروى أبو سفيان بن معمر قال: قال قتادة: إنّ الحوارييّن كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عروة وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام. قال: الحواريون وأسماؤهم في سورة المائدة.
{نَحْنُ أَنْصَارُ الله}: أعوان دين اللّه ورسوله.
{آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ}: من كتابك.
{واتبعنا الرسول} عيسى.
{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} الذين شهدوا لأنبيائك بالصّدق.
قال عطاء: مع النبّي لأنّ كل نبّي شاهد أُمّته [....] مع محمّد وأُمّته.
{وَمَكَرُواْ}: يعني كبار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ودبّروا في قتل عيسى. والمكر ألطف التدبير. وذلك أنّ عيسى بعد إخراج قومه إيّاه وأُمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهمّوا بقتله وتواطأوا على القتل. فذلك مكرهم به.
وقال أهل المعاني: المكر السعي في الفساد في ستر ومداجاة، وأصله من قول العرب: مكر الليل.
{وَمَكَرَ الله}: قال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة، وهو من اللّه استدراجه العباد. قال اللّه تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال ابن عباس: معناه كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة.
قال الزجاج: مكر اللّه مجازاتهم على مكرهم فسمّى باسم الابتداء كقوله: {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد اللّه محمد بن عبدالله البغدادي يقول: سأل رجل جُنيداً كيف رضي المكر لنفسه، وقد عاب به غيره؟ فقال: لا أدري ما يقول ولكن لسيد بني [......] الطبرانية:
فديتك قد جعلت على هواكا *** فنفسي لا تنازعني سواكا
أحبُك لا ببعضي بل بكلي *** وإن لم يُبق حبك لي حراكا
ويقبح من سواك الفعل عندي *** وتفعله فيحسن منك ذاكا
فقال الرجل: أسألك عن آية من كتاب اللّه وتجيبني بشعر الطبرانية فقال: ويحك قد أجبتك إن كنت تعقل.
إن تخليته إيّاهم مع المكر به. مكر منه بهم، ومكر اللّه تعالى خاص بهم في هذه الآية إلقاء الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء.
قال ابن عباس: إنّ ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى، وقصده أعوانه. فدخل خوخة فيها كوّة، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء. فقال الملك: لرجل منهم خبيث أُدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى اللّه عليه شبه عيسى فخرج إلى النّاس فخبرّهم أنّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى.
وقال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل فأسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه؛ فلمّا أرادوا صلبه أظلمت الأرض وأرسل اللّه الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه رجلاً يقال له يهودا وهو الذي دلّهم عليه. وذلك أنّ عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال: ليكفرنّ أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه. فأتى أحد الحواريين إلى الجنود فقال لهم: ماتجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له مائتين درهماً فأخذها ودلّهم عليه فألقى اللّه عليه شبه عيسى لمّا دخل البيت. فرُفع عيسى، وأُخذ الذي دلّهم عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنّون أنّه عيسى. فلمّا صُلب شبه عيسى جاءت أُم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأ لها إبنة من الجنون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إنّ اللّه قد رفعني ولم يصبني إلاّ خير وأنّ هذا الصبّي شُبّه لهم. فلما كان بعد سبعة أيّام. قال اللّه عز وجّل لعيسى: اهبط على مريم في المحراب موضع لأمّه في خبائها فإنّها لم يبك عليك أحد بكاها، ولم يحزن عليك أحد حزنها.
ثم لتجمع لك الحواريين حيث هم في الأرض. دعاه اللّه تعالى فأهبط اللّه عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً فجمعت له الحواريين حيث هم في الأرض دعاه اللّه تعالى ثم رفعه إليه. وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النّصارى، فلمّا أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.
{والله خَيْرُ الماكرين} أي أفضل المعاقبين. قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثة عشر سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل. ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى اللّه عز وجّل لأُمّه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين، وعاشت أُمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7